حفر طباعي لأيقونات الحياة العادية

علي علي بين الذاكرة والأسطورة

بأسطرة الوجود العادي

إذن، هي أساطير شخصية، نابعة من قدرة هذه الأعمال على الإفلات من زمنها الواقعي، لتبدو وكأنها نتاج حكاية أقدم من حياة الفنان نفسه، حاملة رموزاً مشتركة تتجاوز السياق السوري أو الزمني. هكذا، تصبح الفترة التي أنجز فيها علي هذه الأعمال زمناً خاصاً به، مشبعاً بملامح الطفولة، بينما يضع إعادة عرضها اليوم على منصة «آرتسي» هذه الأعمال في زمن جماعي متخيَّل، حيث تلتقي الحكاية الفردية بالرمز الكوني.

وإن قالت السيرة إنه من الحسكة، فإن المشاهد لا يجد في اللوحات توثيقاً لريف «حسكاوي»، ولا يفكر لحظة أن الكائنات الحية في الزرائب والأقنان والأعشاش وأجواء المكان هي مجرد كائنات بيولوجية يديرها مجتمع بشري. قد تمر بعض الصور من ذلك الريف، لكن انطباعاً آخر يوحي بأنها جاءت من حضارة قديمة، من بيئة ثقافية ليست تماماً بيئتنا، أو لعلها بيئة تشبهنا، من بلادنا، من الإنسان العابر في طرق الناس، أو من غريب مرّ وترك تذكاراً

هكذا طاف الفنان في ترحالٍ بين صور متشظية وسردية لا تبدأ بمقدّمة ولا تنتهي بخاتمة، بل تطلق الشذرات والموتيفات بأحبار زاهدة، منها ما يتدرج من البني الداكن إلى الذهبي المطفأ، والأسود ورماده، ومنها ما يعكس كرنفالية تعج بها لوحة من خيام مخروطية غير مألوفة في بيئة بلاد الشام، ناثراً زخارف وأنماطاً وزينة

لوحة «عبّاد الشمس» تتجاوز جمال النبات لتغدو رمزاً لوقفة صامتة صامدة في وجه الرياح، يحيط بها عالم غريب من الأشكال الطائرة والرموز المبهمة.

المشهدية هنا تتخلى عن التفاصيل الواقعية: تتحول إحدى قوائم الحيوان إلى ساق إنسان، الأحصنة مطبوعة على الفراغ لا تتحرك، الماعز بقرنيه كأنه جزء من الكنبة. كل ذلك خارج الزمن، مع تحوير واضح نحو الرمزية والسريالية: نسيج، أقدام حافية، جلوس هادئ، كأن الناس رُسموا بتمرير لون وحيد في الهواء، فيما الحصان الذي كان ينبغي أن يصهل ويخترق الفضاء يظهر رمزاً صامتاً في البيت، بينما الأقدام المجهولة تستحضر مشاهد مسرحية أو طقسية

البعد الأسطوري والذاكراتي جعل اللوحات أشبه بصناديق مسرحية، يتورط المشاهد في رؤيتها جمالياً: وجوه كبيرة، شخصيات أيقونية أو جدارية، إيماءات بسيطة ووقفات ثابتة، بالألوان الترابية الدافئة التي تحيل إلى جدران المعابد أو اللفائف القديمة، وكائنات كانت آلهة أو رموزاً إلهية

لهذا، اختار غاليري المرخية في الدوحة عنوان معرضه الرقمي على منصة Artsy:
«علي علي: بين الذاكرة والأسطورة»
مستنداً إلى معجم رعوي لريف بعيد، حلمي وسريالي، تجمعت فيه لوحات الفنان السوري ورسومه الطباعية. وهي أسطورية أيضاً، لكن لا بمعناها الأكاديمي المتداول، بل بما تحمله من رموز وإيحاءات طقسية

وقد تحقق ذلك عبر تجربة الحفر على الورق (Etching on paper)، التي منحت الأعمال، على صِغر مقاساتها، طابع اللقية القديمة أو الدفتر المنسي، فإذا بها نادرة ثمينة. تعود هذه الأعمال إلى الفترة بين 1998 و2003، لتصبح اليوم جزءاً من ماضٍ يفصلنا عنه أكثر من خمسٍ وعشرين سنة، حينما ساقَت الغيوم أحلامها وجرّت الكوابيس أعناقها

وقد عرض الغاليري، عبر منصته في «آرتسي» التي تأسست في نيويورك عام 2009، ثمانية عشر عملاً للفنان المولود في الحسكة عام 1974 والمقيم اليوم في لاكورونيا – إسبانيا. وقد وصف المرخية هذه الأعمال بأنها مستلهمة بعمق من التقاليد الشفوية والبصرية في العالم، إذ لا نجد ذاكرة أرشيفية جاهزة، ولا أسطورة ناجزة، ومع ذلك نشعر أن كل شيء يشبهنا حين نحضر في فضاء اللوحة.

وبما تيسر من طين جبلته الأصابع ورشح الجبين، نعيش مع الفنان قبل سبعٍ وعشرين سنة صعوداً نحو مطلع القرن، وهو في منتصف العشرينيات يحفر في المعدن ذاكرة شخصية لم تسلّحها إلا يدان مهمومتان

August 21, 2025